وداعاً جوليا ٢٠٢٣

أخيراً وبعد انتظار سنوات، نعم سنوات من أول خبر عن الفيلم، شاهدت (وداعاً جوليا) أكثر من مرة. خلالها لم أشاهد أي إعلان ترويجي، أو أقرأ أي مادة عنه. لم أقصد بالتكرار افتعال خبرة من العدم، ولكنها رغبة لإلقاء نظرة مختلفة على ما اختبرته أول مرة. لم تتغير الخبرة الأولى، لكن ظهرت لي موضوعات الفيلم وأحداثه المعقدة والطبقات التي تتحرك فيها، وهذا ما لا تكفيه مشاهدة واحدة.

عنوان الفيلم وحدث انفصال جنوب السودان يجعلان كل شيء معطى من البداية. لكن (محمد كردفاني) قدم قصة متخيلة، بحبكة أظهرت أكثر من ذلك: ظروف الانفصال وشخصيات تمثل الوحدة ونقيضها من الشمال والجنوب. تكشف عن موقفه من الحدث، ونتعرف فيها على سينمائي سوداني مميز لديه ما يقوله، ويعرف، لحدٍ كبير، كيف يقوله.

يحكي الفيلم أحداث قتل أسرة من شمال السودان لرجل من جنوبه. ثم ما قامت به للتهرُّب والتكفير عن ذنبها بمساعدة أسرة القتيل. حيث أحضرت الأسرة الجنوبية إلى بيتها لخدمتها. فتعيش الأسرتان معاً، فيما يبدو وكأنها صفقة ناجحة للطرفين: يرتاح ضمير الشمالية بتجزئية الديّة، وتستفيد الجنوبية من الامتيازات التي مُنحت لها. مع الزمن تظهر هشاشة الصفقة. فالبيت مليء بالكذب والقوة والعنصرية وغياب العدالة، والوحدة حلم مؤقت، يستيقظ منه الجميع على ما هو معطى من البداية: الكثير من الانفصالات، وفراغ البيت. صاغ كردفاني كل ذلك في قصة هي نسخة مصغرة عن السودان.

سارت أحداث الفيلم على أربع مراحل، تعرفنا في بدايتها على نظام الموروث الثقافي، والأنظمة الاجتماعية والسياسية والأمنية وعلاقات القوة التي تحكم الأسرتين، وتحكم السودان، من المطبخ إلى الشارع. فـ(منى) تعيش زواجاَ هشاً يسيطر فيه (أكرم) عليها، تقابل ذلك بالخوف منه والكذب في كل شيء من أجل زواجهم، من أجل البيت. وعندما قتل أكرم (سانتينوس) ظهر عمل النظام على تطبيق العدالة. فأصبحت منى مثقلة بالذنب وعاجزة، وشعرت (جوليا) بالظلم، وامتلأت بالتساؤلات وعاجزة أيضاً. بعد هذه الصدمة حاولت الاثنتان التأقلم، فسعت جوليا للبحث عن زوجها وإعالة ابنها (دانييل) بأي عمل ممكن، وسعت منى للتخلص من الذنب، بقراراها تجزيئ الدية، وعدم تحملهم للعقوبة المباشرة. حولت البيت إلى قاعة النطق بالحكم وتنفيذه. عاش الجاني والضحية معاً في البيت الموروث، عاشا في حلمٍ رسمته منى، واجتهدت بكل الأكاذيب الممكنة في التخلص من اعتراضات أكرم، وعنصريتها الموروثة، وبناء زواج مثالي. أما جوليا ودانييل فتمتعا بامتيازات الشماليين، ممتنين لطيب نواياهم، واجتهدت، مثل منى، في إسكات دعوات (ماجير) والآخرين للانفصال. صار البيت مكاناً مثالياً للزواج والوحدة. ونشأت فيه صداقة جوليا ومنى بأفكار وأفعال لم يعتد عليها أكرم وماجير من قبل. في نهاية الأمر صحيَ الجميع على الواقع المعقد، لم تكفي الصداقة لحله. واقع متأصلة فيه العنصرية والدم والكذب والغضب والكثير من الدموع. واقع ينتهي بالتحرر أو الانفصال، أو الاثنين معاً. أو كما قالت جوليا “الحاجة البيوروثوها ما لازم الواحد يحتفظ بيها، ياخد الكويس منها، ويخلي الباقي”.

أظهرت هذه الأحداث السردية التي يقدمها كردفاني عن وضع السودان. حيث كشفت نظام القوة بين الأفراد، في تسلط أكرم على منى: الغناء أو الزواج. فهي بخير ما دامت تحت ظله، كسبت الزواج وخسرت حريتها. وظهر نظام القوى بصورة أكبر، حين يخدم مصالح الشماليين، فبعد أحداث أغسطس ٢٠٠٥ طُرد الجنوبيين من المنازل، واُستبيحوا في الطرقات، ولم يجدوا في القانون عزاء، وحتى في بيت الشماليين هم تحت حكمهم. فهم بخير ما داموا تحت ظل الشماليين. قوة مركبة في البيت والبلد. أظهرت الأحداث كذلك التصورات اللاواعية عن المرأة وعن الجنوبيين. فلم يعطِ أكرم فرصة أخرى لمنى. فالمرأة في وعيه خادمة ومحققة للرغبات. وظهرت التصورات بصورة أكبر حين لم تتوقف منى عند الحادث، ولم يستمع أكرم لسانتينوس قبل قتله، فالجنوبي في وعيهم هو الوحشي والعبد والخادم. وعي موروث مركب في البيت والبلد. في نظام كهذا يتبادل الأفراد دور الجناة والضحايا، يتكيفون من أجل النجاة، والحفاظ على النظام. تكيّفت منى بالكذب على الجميع. وكذب أكرم في دوافع قتله، وكذب عليها في إخلاصه. وكذبت جوليا على منى لتنجو بحياتها، وعلى دانييل وماجير في ما عرفته. فصارت حياتهم كذبة كبيرة، الرابط بين الجميع. الكل يكذب لينجو، لا ليحيا. كذب مركب في البيت والبلد. كل ذلك تغطيه هشاشة الأخلاق والأمن والسياسة. فالجميع يمارس العنف على الجميع، قتل أكرم سانتينوس، وهاجم ماجير بيت أكرم. يختفي سانتينوس من الوجود بمكالمة هاتفية، وتُحرق بيوت ببلاغ أحدهم، وتختفي معلومات وتُسرَّب أخرى برشوة. هشاشة مركبة في البيت وفي البلد. هكذا إذن يعيش الناس في حلقة خبيثة من القوة، وسريان الكذب في حياتهم، والحط من إنسانية بعضهم. سردية تسير في اتجاه واحد نحو الانفصال.

وسط ذلك كله، قدم كردفاني سردية مغايرة، بذرة محتملة للحل، قدمها في صداقة منى وجوليا. ظهرت في أفعالهم المشتركة، وتوجتها إجابة منى على سؤال دي صحبتك؟ أيوة -تقصد جوليا- اجابة يحتاجها الجميع: صداقة أساسها العطف والحب والصدق والمشاركة والعدل.

اختار كردفاني أن يولّد الشخصيات من نفس سردية الانفصال، وخلق في الوقت نفسه شخصيات نقضية لها. فمن شمال السودان كان أكرم تجسيداً للموروث المتطرف في علاقته مع منى والجنوبيين، يفعل لتحقيقه أي شيء لحد القتل، فلا أعلى منه، وكانت منى النقيض في سعيها لتغيير علاقتها مع الجميع، تفعل لتحقيقه أي شيء لحد الغناء مجدداً واستضافة أسرة المقتول. ومن جنوب السودان حمل ماجير تصورات ماضيه المؤلم من حرب الجنوب في علاقته جوليا والشماليين، يفعل لتحقيقها أي شيء لحد الدعوة إلى الانفصال. وكانت جوليا النقيض في سعيها لتغيير علاقتها مع الجميع، تفعل من أجله كل شيء لحد التصالح مع أسرة قاتل زوجها والدعوة إلى الوحدة. أما دانييل، فكان الشخصية الأبرز، فحياته ما هي إلا تكرار لحياة الكثير من الجنوبيين في تقلباتها. حيث عاش طفولته ببراءة ترى الخير في الناس في كل الظروف، يرى الحياة جميلة تماماً كما يراها من كاميرا والده. وحينما كبُر ظهرت الحقيقة، فاشتعلت النار داخله، واستّعرت بكل فعل جديد، فلم يعد يرى العالم إلا بمنظار سلاحه.

أن تكون منى وجوليا النقيض لهذه الحكاية، وتسير الصداقة بينهما في اتجاه مختلف؛ يعني حاجتنا إلى المزيد من شخصيات بمفاهيم وعلاقات تحمل بعداً نسوياً، فللم نرى صداقة كهذه بين الرجال. والتفكير والعمل بهذه الطريقة، أي نسوياً، لا يعني أن يكون الجميع إناثا! وإنما إدخال هذه النظرة المغايرة لوعينا، وإغنائه بأفكار التحرر والمساواة وأفعال التعاون والمشاركة، ومشاعر الحب والعطف.

تأتي أهمية وداعاً جوليا من عدة أسباب، فهو يصدر في فترة مليئة بالأعمال التاريخية، حيث تابعنا هذا العام إصدار ثلاثة أفلام مهمة. كانت بدايتها مع كريستوفر نولان في فيلم Oppenheimer، والذي يروي سياقات صنع واستخدام أول قنبلة نووية في التاريخ، من خلال تتبع حياة الفيزيائي الأمريكي أوبنهايمر. بعدها قدم لنا مارتن سكورسيزي أحد أهم أعماله مؤخراً Killers of The Flower Moon، والذي حكى الإبادة الجماعية للسكان الأصليين في أوكلاهوما: شعب الأوساج، من قبل البيض. ومؤخراً قدم ريدلي سكوت فيلمه Napoleon، والذي حكى تقلبات نابليون بين الحب والحرب. في السياق نفسه، يأتي محمد كردفاني في وداعاً جوليا ليقدم لنا رؤية نفسية واجتماعية وسياسية عن الظروف التي سبقت وصاحبت انفصال السودان، احدى أهم المحطات في تاريخ السودان وإفريقيا والعالم.

كل هذه الأحداث التاريخية موثقة وجاهزة لاعادة تجسيدها، وعلى كل مخرج أن يختار كيف يحكيها، وفي أي جانبٍ يقف. فاختار نولان وسكورسيزي وسكوت أن يعيدوا الماضي بتوثقيه في أدق تفاصيله. أما كردفاني فاختار أن لا يكون فيلمه تاريخياً-توثيقياً، بل عرض التاريخ فاعِلاً في إنسان السودان اليوم، في قصة متخيلة كنسخة مصغرة عن هذا الصراع، وأجاد ذلك لدرجة بعيدة.

أما بالنسبة للموقف، ففي أعمال كهذه لا يقف الفنان محايداً، فلا حياد مع الفن. كان على هؤلاء الأربعة اتخاذ موقف واضح بموافقة أو مخالفة أحد الأطراف، أو نقد الوضع كله أو تقديم رؤية مختلفة. حيث اتخذ نولان في أوبنهايمر موقفاً نقدياً للحضارة الغربية والتي، بالرغم من تفوقها الذي قادها للفوز بسباق القنبلة النووية، فقدت البوصلة الأخلاقية في كل ذلك. وقدم سكورسيزي في قتلة زهرة القمر اعتذاراً فنياً لشعب الأوساج، عما ارتكبه أجداده من إبادة عرقية للاستيلاء على ثرواتهم. فأصول سكورسيزي الإيطالية، تجعله في موقف قادر على الإحساس بالآخر وما عاناه. وقادر، ولو نظرياً، على تغيير السردية الشائعة عن السكان الأصليين وبطولات أسلافه البيض. أما ردلي سكوت، فقد حاول في نابليون أن يُضفيَ بُعداً رومانسياً على شخصية نابليون، فالذي مات في معاركه ملايين البشر له قدرة على الحب الملحمي. أما كردفاني، وهو ابن الشمال، فقد عرض امتيازات الشماليين وما قادت له. حتى إن ظهوره في دور الجار الشمالي الذي بلّغ عن الجنوبي، فيه إشارة بأن أفعال الشماليين، باختلاف حجمها، قادت للانفصال. لكنه قدم في الوقت ذاته واقعاً متخيلاً في صداقة جوليا ومنى، ربما قاد لنهاية مختلفة. هذا الواقع المتخيل تمايز فيه كردفاني عن سكورسيزي، وتشابه معه في انتمائه للطرف صاحب القوة، واظهار أفعاله وحضور الآخر في فلميهم.*


محمد كردفاني ومدير التصوير Pierre de Villiers

تأتي أهمية وداعاً جوليا أيضاً من أنه الفيلم الروائي الطويل الأول لكردفاني، بعد أعمال سابقة أظهرت الهموم والموضوعات التي تشغله، وأسلوبه السينمائي الخاص. بالنسبة لهمومه أستطيع القول أن تقاطعات السياسي-الاجتماعي في الواقع السوداني هي أهمها. أما الأسلوب فكونه مُشاهِد مميز للسينما، عارف جيّد بعناصر تكوين الفيلم، فصار بذلك المؤلف-المخرج الذي يواصل مع كل عمل جديد كتابة لغته الخاصة، فاستخدم هنا أساليب جديدة في أعماله وأخرى جربها تستحق التوقف.

استخدام المجاز هو أهم الأساليب، فالبيت هو السودان، المجاز الأهم. فمن اللقطات الافتتاحية نرى البيت القديم، ونرى سكانه: الأسرة الشمالية الوارثة له كما ورثت امتيازاتها ووعيها. تعيش في الطابق العلوي، شمال السودان، مهملةً الطابق السفلي، جنوب السودان. لا يدخل الجنوبي البيت إلا بإذن، ليخدم وإلا يُقتَل. حُدد لجوليا وداني مكانهم البيت، في الأسفل في المخزن. وكل ما يستخدمونه في البيت مفصول عن استخدام أهله، ولا تستفيد منه إلا بإذنهم. تعتني بكل شيء في البيت، ولا تحصل على شيء. في البيت يمارس أكرم سلطته على الكل. وإن كانت منى تعيش في الأعلى، إلا أنها مقيدة فيه كالعصفور في القفص. أما الراكوبة فكانت مساحة للوحدة، فترة انتقالية؟، حلم مؤقت لبيت مختلف، قضت فيه جوليا ومنى لحظات حقيقية. ولم تدم طويلاً حتى عاد الاضطراب للبيت وانفصل كل شيء منه: منى عن أكرم والشمال عن الجنوب.

يمكننا أن نطلق على كردفاني مخرج التفاصيل. حيث خلق تفاصيل مرتبطة بمجاز البيت وبالقصة ككل. كل تفصيلة لها طريقة في حكي نفس الشيء. مثال على ذلك تغير تسريب مياه السقف حسب حالة البيت: حيث اشتد في لحظات التوتر بين منى وأكرم وبين الشمال والجنوب. وتوقف بوجود جوليا في البيت وهدوء الزوج نسبياً، ثم عاد مجدداً حين اضطربت الحال مرة أخرى، وحدثت المواجهة الأخيرة في البيت والانفصال في السودان. وأيضاً تغيرت منى وتغيرت معها التفاصيل. فالبيت بمثابة السجن الكبير لروحها، وعندما شعرت بتحررها أطلقت العصافير من القفص، وغيرت لوحة الطفل الباكي إلى لوحة راقصة الباليه. وتغير وجودها من المطبخ إلى المسرح.

كذلك استخدم كردفاني تفاصيل من الثقافة السودانية، مثل علاقة السودانيين الوثيقة بالفنون، حبهم للحكي والسمر، والكثير من التقاليد. فمثلاً ارتبط الغناء عند السودانيين بمناسبات مختلفة وفي كل وقت في اليوم. للصباح أغانيه ولسمر المساء أغانيه، وللنساء أغانيهن، وللاحتفالات والحزن أغانيها… اختير من كل ذلك بعناية ما بحال الصباح وعلاقة الشمال والجنوب (لاح الصباح) (جاري وأنا جاره) (يا غريب عن ديارك) وغيرها.

لا يمكن الانتهاء من أسلوب كردفاني دون الحديث عن التصوير. حيث تعاون كردفاني مع مدير التصوير الجنوب أفريقي Pierre de Villiers. والذي كانت له اختيارات مميزة في This is not a Burial, it’s a Resurrection جلب بعضاً منها هنا.

من هذه الاختيارات استخدام (Aspect Ratio 1.33:1) كخيار واحد لكامل الفيلم. وهو قياس قليل الاستخدام في السينما، لكن قوته تظهر في تقليل تشويش ماهو غير ضروري والتركيز على الأهم في اللقطة، فاقتربنا من الشخصيات وملامحها ومن تفاصيل البيت المتسقة معها في المطبخ والغرفة والصالة والحوش والراكوبة في الكنيسة والمدرسة. وعبر هذا القياس الضيّق عن حالة الانعزال والقيد والانفصال التي تكررت. وتحركت الكاميرا مع الأحاسيس، فابتعدت عن منى لتتركها وحيدة تبكي في المطبخ، واقتربت منها ومن وأكرم في المواجهة الوداعية علها ترى حقيقتهم الأخيرة. وعبّرت زوايا التصوير عن كل تقلبات داني، من الابتسامة إلى الغضب، دون كلام. ورأينا منى، وهي مقيدة من وراء حواجز النوافذ والصالة والأبواب.

بالرغم من كل ذلك، فإن بعض عناصر العمل لم تضاهي العناصر الثلاثة السابقة، وعناصر أخرى، رفعت السقف الابداعي في الفيلم. فمثلاً، بالرغم من امتلاء الفيلم بالحوارات العفوية السلسة إلا أنه انتهى بأقل حوارين فيه، مواجهة منى وأكرم، وجوليا ومنى.

ففي المشهد الأخير بين منى وأكرم، تحولت اللحظة الأهم في حياة الزوج إلى حوار مقتضب بكلمات قليلة ومتوقعة، برود في التعبير عن المشاعر، واختفاء لانفعالات الجسد. هذا اللقاء كان فرصة منى الأخيرة لظهورها الكامل أمام أكرم. لم تعبّر مثلاً عن تحررها من خوفها منه، بل اختصرته بجمل مقتضبة “أنا دايرة أغني يا أكرم، لكن ما دايرة أكذب تاني. عايزة أعيش معاك ما خايفة منك” قابلها رد مختصر من أكرم كذلك! كيف لا تشعر منى في لحظة كهذه برغبة في الانتقام من أكرم؟ أو بإحساس الشفقة عليه؟ وكيف يظل أكرم صامتاً أمام ما أثارته منى وهو مشحون مما فعله ماجير؟

تلاه المشهد الأخير بين جوليا ومنى، فتحولت المواجهة الأهم في الفيلم إلى نقاش مختصر وبارد. فصداقة الامرأتين جديرة بوداع يليق بها. وهي أهم لحظة نتعرف فيها على جوليا، لحظة التعبير عن غضبها من الظلم الذي تعرضت له، ولحظة التعبير عن حزنها المركب بخسارة زوجها وبيتها وماجير ومنى والوحدة التي آمنت بها.

“تعالي جوة، الموية ده جاي من جنوب”

من أجمل ما قيل في الفيلم، كانت في المشهد الأطول الذي جمع جوليا وماجير، في أكثر الظروف ملائمة لانفتاح جوليا في تصوراتها عن الشماليين بقدر ما قال وكرر ماجير عن نظرته لهم، لانفتاحها عن حزنها الذي عاشت فيه سنوات، وحبها الذي بدأ بالتكون. لكن سرعان ما انتهى الحوار بينهم.

كذلك افتقدتُ الحوار الداخلي (المونولوج) “و” المشاهد المنفردة، تحديداً عند جوليا. فقد مرت بالكثير واكتشفت الكثير خلال سنواتها في البيت. قُتل زوجها فسامحت، خُدعت فسامحت، لديها كل أسباب الانفصال فاختارت الوحدة. جوليا الإنسانة التي أصرّت على إنسانيتها في كل مفترق أخلاقي، حاملةً إيمانها على صدرها في كل مكان. كيف وصلت لذلك؟! إنسانة جديرة أن يعرفها المتلقي أكثر. أقول ذلك أنا المعجب باستخدام كردفاني الجميل للمونولوج في فيلمه القصير (سجن الكجر)، والمشاهد المنفردة الرائعة لمنى.

أما المونتاج وكتابة المشاهد، فمثل الحوارات فقدا قوتهما في أكثر من مشهد. فمثلاً كُتبت ورُكبت كل مشاهد الغناء لتكون الأغنية جزءاً من المشهد لا المشهد نفسه. ففي أغنية جاري وأنا جاره كانت هذه المرة الأولى التي تغني فيها منى بعد سنوات، لم نشهد معها هذه اللحظة المشحونة بالمشاعر. وفي المرة الوحيدة التي سمعنا فيها أغنية بأحد لغات الجنوب، والتي بدأت بأجمل توليفة بين مشهدين في الفيلم، كانت هي كذلك جزءاً من المشهد. فهي ليست أغنية فحسب بل نداء لكل أرواح الجنوب التي ضحت من أجل هذه اللحظة، وتصفيق حار يحتفي بهم تحت سماء الخرطوم.

فريق العمل في مهرجان كان السينمائي ٢٠٢٣


فريق العمل في مهرجان الجونة السينمائي ٢٠٢٣

أما التمثيل، فقد فوجئنا بوجوه لم نرها من قبل، تطرق أبواب السينما وتحفر اسمها في السينما السودانية. تناغموا مع بعضهم وكأن لهم سابق معرفة، وأظهروا براعة لا توجد عند ممثلين قضوا سنوات أمام الكاميرا. لكنهم فقدوا، في بعض اللحظات، التفاعل المناسب مع المواقف. فالتباين واضح بين النص والموقف من جهة والصوت وتعابير الوجه من جهة أخرى. لم تتغير قوة الصوت ولا تأثره بتغير المواقف، وكان الحديث في بعض المشاهد أشبه بقراءة آلية محايدة للنص. ورأيت الوجه نفسه في أكثر من حالة متغيرة، وكأن شيئاً لم يحرك دواخلهم ليظهر غلى وجوههم. وهنا أيضاً أعود للاشارة لمشهدَي المواجهة.

في وداعاً جوليا تشعر بالحنين لكل ما هو جنوبي، وبرغبة شديدة لدخول غرفة المونتاج/العودة بالزمن، لازالة كل مشاهد العنصرية والظلم من الفيلم/الواقع، أن تُبقي فقط على ماهو جميل: جمال الجنوبيين، أغانيهم، كنائسهم، مدارسهم، أنشطتهم الاجتماعية… وأصدقائنا القدامى. لكن ذلك نصف حقيقة، وعليك أن تراها كاملة ومجردة، وأن تحاول ذلك بعين الجنوبي: وجودهم في بيوت الخرطوم وطردهم منها، بيتوهم العشوائية وحرقها لهم. غياب العدالة في حقهم، وكل كذبة لاحقتهم لآخر لحظات خروجهم من الخرطوم، حين اتجهت مياه النيل جنوباً.

أظن أن ذلك ماحاول كردفاني رؤيته أولاً قبل أن يعرضه أمامنا.

أخيراً أود إنهاء كتابتي هذه بمشهد ختامي متخيّل:

نعود إلى البيت كما بدأنا منه.

أكرم على ضلاله القديم.

الأماكن فارغة: المطبخ، الصالة، الراكوبة والحوش.

القفص مفتوح…

والباب مغلق.




تقييمي للفيلم:

8.25/10



*تفاصيل أكثر في هذه النقطة في مقال لاحق