مشهد (٣): فيلم (عبد لاثني عشر عاماً) لستيڤ ماكوين 12 Years a Slave - Steve McQueen

هذا المشهد* الذي يستمر لدقيقتين وخمسين ثانية تقريباً، نشهد تفاصيل تعذيب سولمون من قِبل كبير النجارين البيض الذي افترى عليه وضربه، فرد سولمون بالدفاع عن نفسه وضرْبه. ولأن حق الدفاع وتوضيح الحقيقة مسلوب في عالم العبودية، فقد كان عقابه القتل، الذي تغيّر في اللحظة الأخيرة لعملية التعذيب هذه.

يقدم Steve McQueen للمتلقي في هذا المشهد تجربة تجمع بين تصوير التعذيب لفترة طويلة وبتفاصيل مربكة، وتأمل مفتوح في أحوال العبودية لا تحجبه تفاصيل العنف. مشهد هاديء مقارنة بما قبله وبعده من مشاهد التعذيب.


يتكون المشهد من ثلاث لقطات أساسية، تحكي كل واحدة جانب أساسي يرتبط بقصة الفيلم وبالسياق النفسي والاجتماعي لحالة التعذيب هذه، وحالة العبودية بشكلٍ عام:  

ففي اللقطة الأولى بداية تعليق سولمون بحبل مربوط حول عنقه، ومثبّت بأحد فروع الشجرة. حيث يقف على الأرض الطينية بأطراف أصابعه، إنْ أخطأ في تثبيت قدميه سينزلق ويشنق نفسه.

ونرى خلفه كيف تسير الحياة بشكلٍ طبيعي، يمارس زملاؤه أعمالهم اليومية ويلعب الأطفال، دون أي محاولة لإنقاذه أو استنكار تعذيبه.

في اللقطة الثانية تتقدم إحدى النساء لتحضر الماء لسولمون، وهي خائفة تحت أنظار السيّد.

وفي اللقطة الثالثة تتغيّر زاوية الكاميرا للجهة المعاكسة المقابلة لسولمون، لتعرض لنا مراقبة السيد لما يحدث، بالتأكد من استمرار عملية التعذيب على جميع العبيد. أحدهم تحت التعذيب والبقية لا قدرة لهم على إنقاذه وبل عليهم إكمال حياتهم وأعمالهم.

الحرية الممنوحة للعبيد في هذا المشهد خادعة وغريبة. فهم ابتداءً مسلوبي الحرية في كل قراراتهم، وتُرَد إليهم في موقف كهذا ويكون مصير حياتهم بخطوة واحدة منهم، في ظروف لم تصنعها حرية قرارهم. فكل الظروف التي أودت بسولمون إلى هذه الحالة لم تكن بإرادته بل أكره عليها. وبالرغم من ذلك، عليه الاختيار ولمرة واحدة وبحركة واحدة من قدميه أن يحيى أو يقتل نفسه!

أما زملاؤه فلهم هامش من الحركة والمساعدة، يوهمهم بأن لديهم القدرة على اتخاذ قرار مساعدة بعضهم. في حين أن حقيقة ما يفعلوه لا يغيّر من الوضع شيئاً. بل على العكس، هو إيهام بالحرية في غير موضعها.

ليكون حال المشهد في النهاية: الاقتراب من كل شيء وعدم الحصول عليه. الوقوف على مسافة متساوية من الحياة والموت، الحرية والعبودية، المساعدة والعجز. دون نيل الحياة والحرية والعون. وهذا ما يريده السيّد تماماً، أن يجعلهم في حالة من التيه والوهم، أن يجعل الجميع عاجزاً وتحت سيطرته الكاملة.

من ناحية أخرى، فإن السيد لكي يحكم سيطرته على العبيد لابد أن يغير ذهنيتهم ونفوسهم وعلاقاتهم الاجتماعية. فعملية تعذيب سولمون ليست جسدية فقط، بل ذهنية ونفسية كذلك. فأولاً استمرار فترة التعذيب طوال النهار يجعله في انشغال دائم بكل حركة من أصابع قدميه حتى لا يقتل نفسه. لا الحبل موجود على ارتفاعٍ عال لقتله ولا هو على الأرض ليحيى، وإن حصل ذلك في اللحظة الأخيرة، إلا أنه تجسيد حقيقي لما عليه الحال. فالعبيد منشغلون دائماً بالنجاة من المشاكل الواحدة تلو الأخرى، تفكيرهم دائماً عند موطئ أقدامهم -حرفياً- ولا وقت لديهم للتفكير فيما أودى بهم إلى عبدويتهم ابتداءً.

كذلك، فإن استمرار هذا التعذيب جعل سولمون يرى ويسمع من حوله كيف تستمر حياتهم بدونه وبدون إنقاذه. وبالتعوّد على ذلك، يضعف التواصل والتعاطف بينهم.

أما البقية، فبعدم قدرتهم على مساعدة سولمون. يعلمون جيداً أن دورهم قادم قريباً، وسيشاهدهم البقية كما يشاهدون سولمون الآن، وكما شاهدوا جمعياً ما حدث لإليزا من قبل ولم يحركوا ساكناً، وكما سيحدث لغيرهم مستقبلاً.

بذلك يتعزز لدى الجميع أن الطريقة الوحيدة للنجاة هي النجاة الفردية، أن تبقى على قيد الحياة قدر الإمكان مهما كلّف الثمن، وإن كان ذلك الثمن أن تنقص من انسانيتك، فتبقى في عبوديتك حتى الموت. فلا مكان للتفكير بشكلٍ جماعي والتحرّك بناءً على ذلك. فأي محاولة للمقاومة الجماعية قد تنتهي بالضرر على الكل. إلى ما انتهى إليه سولومون وإلايزا وغيرهم. هذا التغير في التفكير من النجاة الجماعية إلى الفردية وفي تغيّر شكل العلاقة بين أصحاب المصير المشترك يعزز وضع العبودية القائم.


هذا المشهد استثنائي وسط سلسلة من العنف والمآسي في الفيلم قبله وبعده. حيث يسمح، بالرغم من قسوته، بالوقوف على الصورة الكاملة للعبودية، بعرضها من أكثر من زاوية، في الجلاد والضحية الحالية والضحايا المحتملين والسياق العام.

فأهميته في أنه أكثر المشاهد هدوءاً بين مشاهد التعذيب، في الطريقة التي تم تكوينه بها، فهو كثيف بصرياً من حيث تصويره للتعذيب، لكنه تقشفي في عناصر تكوين المشهد الأخرى. فتواتر الأحداث بسيط، ويترك مساحة بصرية وفراغ لغوي وصوتي، يُعطي الفرصة للمتلقي للتأمل فيما استثاره فيه كامل الفيلم حتى لحظة المشهد هذا. واستصحابه معه في المشاهد القادمة.

فبالنسبة لحركة الكاميرا، فثباتها على طول المشهد سمح بأن نرى كل من في المكان وماذا يفعل وكيف يستجيب لتعذيب سولمون، ثبات محايد للجميع تقريباً، يسمح، من ضمن ما يسمح، للمتلقي بالتأمل بطريقته الخاصة بعيداً عن أي تأثير وإجبار مسبق. حيث نرى كل مستويات العقاب على الجميع، فنرى الضحية الحالية والمحتملة، ونرى التأثير الذهني والنفسي والاجتماعي. هنا في هذا الفيلم المتسارع الأحداث والمليء بالعنف تظهر لنا لمحة من الأسلوب السينمائي للإيراني عباس كياروستامي في سينما التأمل الخاصة به، والتي تقف على الحياد فتسمح للمتلقي بالمراقبة والتأمل. هنا تستطيع التقاط أنفاسك وتعيد ترتيب مايحدث في الفيلم ويحدث بداخلك.

أما بالنسبة لتواتر الأحداث، احتوى المشهد على حدث واحد رئيسي، لكن تكراره كان كافياً لزيادة ثِقل العقوبة على المتلقي. فسلومون على هذه الحال لنهارٍ كامل. يحاول مراراً ألا يموت. هنا؛ استمرار التعذيب وتكرار محاولات سولمون كانت أولى من ملء المشهد بأساليب تعذيب معتددة، فأسلوب تعذيب واحد على شخص واحد وفي موقف واحد يكفي لادراك بشاعة ما يحدث.

أما الحوارات والموسيقى، فقد اختلف هذا المشهد عن جميع مشاهد التعذيب في الفيلم بخلوه من الحوارات والموسيقى. فكان صوت حركة الحبل وأطراف أصابع سولمون على الوحل وتنهيداته كافية لإثارة كل شيء. كان صمت البشر والطبيعة على هذا الظلم أبلغ من أي حوار وموسيقى لإيصاله.


إن التقليلية والفراغ في العمل الفني، والسينمائي هنا، لا ترتبط بالصورة فقط، بل بكل عناصر انتاج المشهد. وتكوين المشهد لا يعني القدرة على الاضافة فقط، بل ”و“ القدرة على حذف ماهو غير ضروري، للسماح بالضروري أن يتجلّى.



*بإمكانك مشاهدة المشهد على هذا الرابط

مشهد (٢): فيلم (حدث ذات مرة في الأناضول) لنوري جيلان Once Upon A Time in Anatolia (2011) Nuri Ceylan

(جميلة) ابنة المختار لحظة دخولها الغرفة في المشهد

(جميلة) ابنة المختار لحظة دخولها الغرفة في المشهد

تدور أحداث الفيلم -الذي أخرجه وشارك في كتابته السينمائي التركي نوري جيلان- حول رحلة البحث الطويلة والشاقة عن جثة رجل قتله شخصين، من قبل فريق البحث المكوّن من عدة رجال. خلال هذه الرحلة لا نجد الجثة فقط، بل تظهر لنا عدة مستويات لحقيقة هذه الجريمة، كما تكشّف النقاب عن حقيقة موت آخر ومآسٍ أخرى.

فيما يلي عرض لمشهد من الفيلم*، والذي يبدأ في الدقيقة الخامسة والخمسين ويستمر لخمس دقائق تقريباً. حيث تدخل ابنة المختار (جميلة) على الرجال في المجلس، وتقدم لهم الشاي والنور، ثم تخرج.  وعلى الرغم من قلة واعتيادية أحداث المشهد؛ إلا أنه يرتبط مباشرةً مع ثيمات الفيلم كتأثير جريمة القتل على الجميع، تعدد مستويات الواقع، مكان المرأة في تفكير المجتمع وغير ذلك. حيث يشير ويتصل بأحداث سابقة ولاحقة في الفيلم.

يبدأ المشهد بلقطة خروج (جميلة) من المطبخ بهدوء، حاملةً الفانوس والشاي، قاطعةً بهم فناء المنزل ببطء في ظلام الليل وعلى إيقاع هزيز الريح، حتى تصل إلى المجلس. في اللقطة الثانية تدخل على الرجال في الغرفة المظلمة لتبدأ بتوزيع الشاي عليهم، في لقطات متتالية تضيء وجه كل واحدٍ منهم بنور الفانوس، تنحني نحوه وتلقي عليه نظرة، ثم تعطيه الشاي وتنتقل للآخَر. تبدأ بالطبيب وتنتقل للمدّعي العام ثم المتهمين (رمضان) و(كنان) وأخيراً القتيل (ياسر)، ينتشر الضوء مع حركتها في أنحاء الغرفة، ثم تغادر.

بدأ المشهد من نافذة المجلس، حيث الجميع ينظرون إليها وينتظرون قدومها، بكل أثقالهم الجسدية والنفسية. كان مشيها بطيئاً، وانتظارهم طويلاً. النور والشاي كانا كل ما توقعوه منها، إلا أنها حملت ماهو غير متوقع. أتت بكل احتمالات الجمال والحياة في ذروة قصة الموت هذه.  فحوَّلت نفوسهم: رأى الطبيب فيها ملاكاً وسط الشياطين، رأى طليقته وحياته المهدرة في هذا المكان، رأى فيها مستقبلاً أجمل. رأى فيها المدعي العام مأساة موت زوجته وحزنه المستمر، وجمالاً وشباباً مهدراً. رأى فيها (رمضان) عطفاً لم يجده من أحد. ورأى القاتل فيها الضمير الذي ينقصه للندم، والبصيرة التي تريه فظاعة جريمته، والخيال الذي أراه (ياسر) حياً لم يمت، وأخيراً المخلّصة التي أزاحت عنه الحِمل ليعترف بكل شيء. أما القتيل فقد أحيته معنوياً في المكان، لنرى لحظات موته. هكذا أضاءت المكان والقلوب ثم غادرت. وينتهي السحر بمغادرتها لنعود مجدداً للواقع، مع صرخات (ناجي) على (كنان) بأن يستيقظ، فالليلة الطويلة لم تنته بعد.

منذ بداية الفيلم أخذ التوتر يزداد بين الجميع، فأتت جميلة وأتى هذا المشهد لينقل الفيلم من كل ذلك إلى حالة نفسية جديدة مليئة بالندم والتوقْ والأحلام والأمنيات والدفء والسلام. فمن هذه المنطقة النائية وفي ظلمة الليل وشدة البرد والرياح وانقطاع الكهرباء، في منطقة قليلة البشر كثيرة الأموات، ومع حَنَقِ الرجال ، أتت (جميلة) من العدم، وكسرت كل الشروط الممكنة لوجودٍ مثلها، لا المكان ولا ضيوفه ولا الظروف يشبهانها. بل وكسرت الوجود الدائم للرجال في الفيلم، فكانت الظهور الأول لشخصية نسائية فيه، وجوداً لوجهٍ آخر في الوجود، للحياة. أسدل هذا المشهد الستار عن ما كان غامضاً قبله، ففي المشاهد التالية أفصح (كنان) عن تفاصيل جريمته، أمطرت السماء بعد انتظارٍ طويل، وجدوا الجثة في أول مكان توقف. تغيّر كل شيء بعد (جميلة)، وبدأ الفيلم فصلاً جديداً في هذا الحدث الأناضولي.

في المشهد التالي رأينا جميلة مجدداً، حيث خرجت لجمع الملابس المعلّقة بعد اشتداد الريح واحتمال هطول المطر، هذا الظهور فيه إشارة أخرى لدورها المختلف، فكما رأينا أن أثر ما تقوم به على الدواخل كما الظواهر، فإنقاذها للملابس من الريح والمطر كإنقاذ كل شيءٍ في الحياة. معها صارت الضيافة في القرية ضيافتين، ضيافة المختار الجسدية للراحة والأكل كما طلبها الرجال تماماً. وضيافة ثانية من (جميلة)، نفسية وروحية، لم يعد بعدها الفيلم كما كان.

تكوين الصورة والإضاءة عزَّزا دور (جميلة) وتأثيرها، فنرى الكاميرا لا تتحرك إلا بحركتها، ولا تظهر أحداً من الرجال إلا عندما تقترب منه، فأهمية كل واحد منهم في اللقطة تأتي من أهميتها هي، من اقترابها منه وتقديمها الشاي والنور له. أما الإضاءة  فكان وجهها مضاءاً باستمرار على عكس وجوههم المظملة، التي تظهر فقط باقترابها منهم،  فتضيء وجوه الواحد تلو الآخر كما تضيء دواخلهم. وبالإضافة للتقابل في تأثير (جميلة) عليهم وفي حركة الصورة والضوء، امتدت الثنائية في بقية العناصر المكونة للمشهد: فمثلاً نجد الجميع جالسين ساكنين كالمريدين في حضرتها، وهي الوحيدة تتحرّك بينهم وكأنها تحاول إحياءهم. وهي الأنثى الوحيدة بينهم، والغريبة مقابل مجموعة رجال يعرفون بعضهم. تعابيرها الهادئة مقابل تعبيراتهم المضطربة. تملؤها الحياة ويملؤهم الموت. تعطي كل شيء مادياً ومعنوياً وهم يستقبلون. كل ذلك جعل المشهد غنياً عن الكلام، فحال هؤلاء أوضح مع الظلام وتأثير (جميلة) عليهم أوضح مع النور. كل ذلك في انتقال سلِس من عالم هؤلاء إلى عالم (جميلة) ثم عالم (كنان) والعودة مجدداً مع صرخات (ناجي).

وبعد أن كان الزمان طويلاً مملاً وثقيلاً، والمكان يتكرر وكأنهم عالقين في متاهة، انتقل كل شخص مع جميلة إلى أماكنه وعوالمه الخاصة، وصار زمانه خفيفاً لطيفاً .

وكما انتقل بنا الفيلم من مستوى إلى آخر في حقيقة موت (ياسر): مع (ناجي) ثم مع المدّعي العام وأخيراً مع الطبيب؛ فإنه ينتقل بنا إلى مستوىً آخر لحقيقة (جميلة). يظهر ذلك في المشاهد التالية، وفي تعرفنا على بقية الشخصيات النسائية في الفيلم، حيث لها مكانةً مناقضة لما عليه (جميلة) في مشهد النور. فمن الحديث الذي دار بين الطبيب والمدعي العام ومن كلام عرب وكلام ناجي حين قال نقلاً عن زميله في العمل: ”أينما وجدت علبة من الديدان، ابحث عن امرأة. تأكد أن تبحث عن أمرٍ مع امرأة. وطوال هذه السنوات لم يخطيء هذا الرجل ولو مرة واحدة“. من ذلك كله، نجد أن كل واحدٍ فيهم قد أغوته (جميلة) بشكلٍ ما، ونرى تصورات هؤلاء عن المرأة. فهي بالنسبة للجميع مادة لابد من استغلالها، وبداية للشر.

هذه النظرات والتعليقات تجعلنا نُسائِل دور (جميلة) في الفيلم، ونبحث ونتأمل في حقيقة أخرى لاحقة لهذا المشهد -وربما نتنبأ بمستقبلها-: أيُّ الامرأتين ستكون في المستقبل؟ فالمرأة الأولى، زوجة (ياسر)، خانته مع (كنان)، فكانت هذه الخيانة سبباً في مقتل (ياسر). والمرأة الثانية، زوجة المدعي العام، أنهت حياتها بعد معرفتها بخيانة زوجها لها. فالأولى خانت زوجها والثانية خانها زوجها، وكانت النتيجة واحدة: الموت.

وماهو مصيرُ (جميلة)؟ هل ستنقذها نظراتها للطبيب كما أنقذتهم في المشهد السابق؟ أم أن هذا هو واقعها ومصيرها خلف الجدران؟

 هل ستبدأ هذا الطريق وتصبح شرارة البداية لكل المشاكل؟ أم ستنجو منها وينجو ارتباط مصيرها بالموت لتواصل ما بدأته في هذا المشهد! أم… أم هي مجرّد تصور ”جميل“ و“فني“، يتكرر في الفنون ولا يحدث في الواقع. لنجد أنفسنا أمام سؤال ڤيرجينيا وولف** القديم: لماذا هذا التناقض بين تصوراتنا عن المرأة في الواقع وفي الفن؟ لماذا (جميلة)، جميلة فقط في هذا المشهد؟

ولنختم في النهاية بسؤال: هل (جميلة) موجودة بيننا حقاً؟

وكما حوّل مشهد النور كل الشخصيات فيه، حولّنا للنظر في حقيقة جميلة. تماماً كما حولنا الفيلم للنظر في حقيقة كل شخصياته من الشرطي إلى الطبيب.


*بإمكانك مشاهدة المشهد على هذا الرابط

**هذا السؤال طرحته الكاتبة الإنجليزية ڤيرجينيا وولف في كتابها A Room of One’s Own، بإمكان قراءة مراجعتي للكتاب

مشهد (١): فيلم (حنين) لأندري تاركوفسكي Nostalghia (1983) Andrei Tarkovsky

تُعَد الخِبرات الشخصية واحدة من أهم المصادر التي استمدَّ منها السينمائي الروسي Andrei Tarkovsky في أعماله.
فقد كانت لآخر سنين حياته التي قضاها مضطراً خارج روسيا -بسبب مضايقات حكومة الاتحاد السوفيتي له في انتاج أفلامه- تأثيراً على نفسه، ببعده عن وطنه وأسرته. امتدت خبرة الغربة والحنين هذه وانعكست في موضوع وتفاصيل فيلمه Nostalghia (1983)
الذي أنتجه وهو في إيطاليا. ولأن تاركوفسكي يُولي أهميةً كُبرى لما يسكن نفس الانسان بفعل هذه الخبرات، فإن بِناء الفيلم محكومٌ بمنطق العالم الداخلي لشخصياته، لهمومها وأحلامها وذكرياتها وكل ما يشغلها.

تدور أحداث الفيلم حول رحلة الكاتب الروسي
Andrei لإيطاليا واقامته في قرية  Bagno Vignoni
للبحث في سيرة الموسيقي الروسي Pavel Sosnovsky
الذي عاش فترة من حياته فيها. يعرض الفيلم عدة أحداث تتناول موضوع الغربة بين أندري و Eugenia المترجمة المرافقة له من جهة،
وبين أندري و Domenico أحد سكان القرية من جهةٍ أخرى.

في التالي عرض لمشهد من الفيلم، والذي يبدأ في الدقيقة الخامسة والعشرين، ويستمر حوالي السبع دقائق. وهو عرض لليلة أندري الأولى في غرفته في الفندق، حيث يتكون من لقطات تبدأ بلقطة رؤية أندري للغرفة، ثم نومه وحلمه، وينتهي باستيقاظه في الصباح. وعلى الرَغم من معالجة الفيلم لموضوع الغربة من أوجه عديدة، فإنَّ هذا المشهد يتناول الاغتراب عن الوطن والأسرة والمشاعر المرتبطة بهما بشكلٍ خاص*:

 

يبدأ المشهد باستكشاف أندري للغرفة ذات الأثاث القليل والألوان الغامقة والاضاءة الخافتة. يفتح النافذة لكي يرى المطر في الخارج، لكن لا شيء هناك سوى حائط باهت ولا مظاهر للحياة، فيتركها مفتوحة ويجلس في سريره، ويباغته النوم. عند نومه يدخل كلبٌ للغرفة، يجلس بالقرب من السرير، ويمسح أندري على رأسه. بعدها يتوقف المطر، ويدخل الضوء للغرفة وينير وجه أندري. تفاصيل الغرفة، وصعوبة رؤية المطر، واستسلام أندري للنوم كلها تعبر عن حالة الوحشة والوحدة التي يعيشها. أما الكلب فلم يأتي من الفندق، ولكنه أتى من ذاكرة أندري تعبيراً عن الحنين الذي يسكنه.

هنا ينتقل المشهد إلى حلم أندري، والذي يبدأ بلقطة زوجته المبتسمة التي تقترب من يوجينا فتضُمها. اللقطة الثانية تحاول فيها يوجينا إيقاظ أندري لكنه لا يستيقظ بالرغم من جلوسها بقربه في السرير، وفي الأثناء نسمع دندنة إمرأة لأحد الأغاني الروسية. اللقطة الثالثة والأخيرة من الحلم يغادر فيها أندري السرير الذي ترقد فيه زوجته الحامِل، وفي الأثناء نمسع صوت حركة المفتاح داخل جيبه. هنا نُغادر الحلم تدريجياً، كما بدأناه، إلى الغرفة.

في هذا الحلم كانت يوجينا تبكي في اللقطة الأولى، ويظهر عليها الانزعاج في اللقطة الثانية، على عكس ما عليه زوجة أندري التي كانت مبتسمة في اللقطة الأولى ومطمئنة في السرير في اللقطة الثانية. وكما في حالة الكلب، فإن لقاءهما لم يكن حقيقياً، ولم تدخل يوجينا غرفته أثناء نومه. وجود يوجينا في كلا اللقطتين هو انعكاس لتأثير محاولاتها المتكررة للتقرب منه بينما هو بعيدٌ كل البعد عنها، لذلك كانت تبكي وتواسيها زوجته، ولذلك لم يستيقظ أندري من محاولاتها. وعلى النقيض، فإن ابتسامة وارتياح زوجة أندري تعكس كم هي مطمئة من حبه لها وعدم اهتمامه بيوجينا. أما مفتاح بيته في روسيا فهو دائماً في معطفه ولا يمل لمسه كل حين خلال الفيلم، هو تذكيرٌ دائمٌ له ببيته وبوطنه، بالعودة.

اللقطة الأخيرة في المشهد كانت العودة لرأس أندري وهو نائم من جديد، حيث نسمع فيها نداء يوجينا لإيقاظه، نداء في الحقيقة هذه المرة، يسمعها وهو في آخر لحظات نومه، يصحو وينتهي المشهد.

إن تسلسل المشهد في سرده لواقع أندري ثم انتقاله إلى حلمه ثم العودة إلى واقعه مجدداً كان بشكلٍ غير خطي زماناً ومكاناً، وغير واقعي في شخصياته وأحداثه. حالة أندري ودواخله كانا الحاكميَن للسرد وكل تفاصيل بناء المشهد. فزمانياً لم ينم أندري ويستيقظ في اليوم الثاني مباشرة، بل انتقل إلى زمانٍ هو فيه مع زوجته الحامل، وزوجته تلتقي يوجينا. ومكانياً لم تكن غرفة الفندق هي المكان الوحيد لحدوث المشهد بل كان منزله في روسيا أيضاً. وفي الشخصيات لم يكن أندري هو الوحيد فيه بل كانت زوجته ويويجينا وكلب الأسرة كان مرافقه في غرفته كما يرافق أسرته في روسيا. وفي الأحداث كان أندري أقرب لزوجته البعيدة عنه في الواقع، وأبعد من يوجينا القريبة منه في الواقع. هذا المزج بين العالميَن امتد للخارج، حيث تغيَّرت دلالات العناصر وصار لها معنىً آخر أهم. فالغرفة التي هي في الأساس مستقرٌ ومكانٌ للراحةِ والنوم، صارت كالسجن مُوحشة وباردة وكئيبة. ونافذتها تُطل على حائط يُشعر بالضيق المكاني والنفسي على عكس ما عليه الاطلالة في روسيا من رحابة وجمال. أما المفتاح فيفقدُ بابه، ليصبحَ تذكيراً بالبيت وبالوطن، فكل مرة يلمسه أندري ويسمع صوته يتذكر -ونتذكر نحن أيضاً- روسيا.

دور الممثلين الثلاثة في المشهد هو التعبير عن كل المشاعر الممكنة لحالة الغربة والحنين بأفعال جسدية دون أي كلام يساعد على توضيحها: فأندري يرمي كتاب يوجينا غير مكترث، ويضع شنطته من غير أن يفرغ ملابسه، ويترك المطر ولا يخرج لمشاهدته، ويطفئ أنوار الغرفة، وينام بملابسه… فهو مهموم ووحيد وفي حالة حنين دائم لوطنه وأسرته لا يطيق غربته الحالية وليست لديه رغبة -أو لا يستطيع- تكوين ذكريات جديدة. وزوجته بابتسامتها في شوقٍ له من ناحية وطمأنينة على حبه لها من ناحية أخرى. أما يوجينا فببكائها هي يائسة وحزينة وغاضبة من فشل محاولاتها التقرب من أندري.

أما الصورة فقد اعتمد المشهد فيها على لقطات قليلة في عددها، وطويلة في زمنها، وبسيطة في تكوينها، وبطيئة في أحداثها. فبلقطة واحدة نرى كامل غرفة الفندق، ومنها نقترب ببطء لجسد أندري ورأسه وهو ما يقربنا لعالمه الداخلي وينقلنا لحلمه. وكذلك نبتعد بلقطة واحدة عن رأسه وجسده لنعود للغرفة وللواقع. أما في الحلم فانتقلت بين وجوه الشخصيات لتظهر المشاعر المتناقضة بين كل واحد منهم. هذا الهدوء في عمل الكاميرا والفراغ الكبير في الزمان والمكان جعلا المشهد يبدو مملاً وبدائياً وفارغاً للوهلة الأولى، لكنهما في الحقيقة ساهما في انكشاف المشاعر الواحد تلو الآخر، كلٌ على حِدى، فاستفردت بذلك كأن لها أدواراً لا تقل أهمية عن أدوار الممثلين وحركات أجسادهم.

أما الاضاءة، فإن اطفاء أندري لأنوار الغرفة ثم اظلام الغيوم له، زادا من مشاعر الوحدة والوحشة التي يعيشها، وانارة رأسه بعد توقف المطر كانت بداية للدخول لعالمه. أما الألوان فقد كانت قليلة وقاتمة تعكس حالة اللاحياة والوحشة التي عليها أندري، والانتقال للأسود والأبيض في الحلم يلفت الانتباه لتغيُّر ظروف المشهد نظراً لقدرة الأسود والأبيض على تقليل التشويش والتركيز على ماهو أهم من المكان كتعابير الممثلين ومشاعرهم.

وأخيراً لابد أن يكون المكان منسجماً مع كل هذه المشاعر والحالة السائدة. أنسب مكان لها هو الفندق، حيث يأتيه الناس ويغادروه بلا أثرٍ يتركوه خلفهم. غرفة الفندق هي انعكاس حقيقي لروح أندري وأفضل مكان يحتويها. أما المنزل فلا ينسجم فيه كل ذلك، فمهما كان الضيفُ غريباً عنه، فإن الدفء والذكريات والتفاصيل الخاصة بأصحابها لابد أن تؤثر على كل من فيه.

إن صعوبة تأقلم أندري مع وضعه الجديد أظْهرت مقدار التيه والغربة المتمكنان منه. فهو قليلُ الكلام ونادراً ما يبتسم وكثيراً ما يقضي وقته وحيداً... وبالكاد يتفاعل مع الناس ويخالطهم، وإن حصل، فسرعان ما يفقد تركيزه ويسرح في ذكرياته. أما في عزلته، فلا يستطيع التفاعل مع ما حوله فينغلق على نفسه ويعيش في عالمه الخاص، فمرة يسمع نداء زوجته ومرة يلمس مفتاحه وأخرى يعيش في أحلامه... إن إدراك حالة أندري يجعل أثر هذه السبع دقائق يمتد حتى بعد نهايتها. فهذه المشاعر القوية التي عاشها تاركوفسكي ومن ثم أندري تترك أثرها في المتلقي ليعيش ويسرح معها كما سرح أندري عن كل شيءٍ حوله. 

هذا المشهد لا يخضع لقوانين العالم الفيزيائي، متحرِّر من قيود المادة وهوس الدقة والتفاصيل والتقليد. تحرُّر يُدخِل الصورة رِحاب العالم غير المرئي للانسان: أفكاره ومشاعره وذكرياته وأحلامه وآماله... فيه الزمان غير الزمان والمكان غير المكان... يُقبَلُ فيه كل ما ارتبط بدواخل الشخصيات وعبَّر عنها مهما كان غريباً، ارتباطٌ يُحدد مدى أصالة وحقيقة وصلاحية كل عنصر فيه.

سرد قصة أندري بهذا المنطق لم يكن في هذا المشهد فقط، بل في كامل الفيلم. حيث احتوى العديد من المشاهد التي فيها أحلام أخرى وذكريات وأعمال فنية وحوادث غريبة. مما جعل الفيلم يحدث في عالميَن ومستويين مختلفيَن. وعلى صعيدٍ أكبر فإن أعمال تاركوفسكي كلها تسير بنفس النهج، فهو يرى أهمية وأولوية لعالم الانسان غير المرئي، وسعى من خلال أفلامه لجعل غير المرئي مرئياً، فهو الأساس ولا حقيقة إلا فيه وبه.

وكما كان الفنان والفيلسوف سقراط يدعو النحَّاتين لمراقبة تأثير نشاطات الروح على الجسد، حتى يجسدوها بدقة في أعمالهم، فإن بإمكاننا القول أن تاركوفسكي راقب نشاطات دواخله وكيف تجلّت في حياته فنقلها في أجساد شخصياته، وأكثر من ذلك، في صورته ككل، فصارت انعكاساً وتجسيداً لعوالم الانسان كلها. صورة من نوع آخر يمكن أن نسميه: سينما غير المرئي أو سينما الدواخل أو سينما الروح**.


 

* بإمكانك مشاهدة الفيلم على هذا الرابط

** للاستزادة أكثر حول فلسفة تاركوفسكي الفنية والسينمائية، بإمكانك قرآءة كتابه Sculpting in Time، وهذه مراجعتي له