مشهد (١): فيلم (حنين) لأندري تاركوفسكي Nostalghia (1983) Andrei Tarkovsky

تُعَد الخِبرات الشخصية واحدة من أهم المصادر التي استمدَّ منها السينمائي الروسي Andrei Tarkovsky في أعماله.
فقد كانت لآخر سنين حياته التي قضاها مضطراً خارج روسيا -بسبب مضايقات حكومة الاتحاد السوفيتي له في انتاج أفلامه- تأثيراً على نفسه، ببعده عن وطنه وأسرته. امتدت خبرة الغربة والحنين هذه وانعكست في موضوع وتفاصيل فيلمه Nostalghia (1983)
الذي أنتجه وهو في إيطاليا. ولأن تاركوفسكي يُولي أهميةً كُبرى لما يسكن نفس الانسان بفعل هذه الخبرات، فإن بِناء الفيلم محكومٌ بمنطق العالم الداخلي لشخصياته، لهمومها وأحلامها وذكرياتها وكل ما يشغلها.

تدور أحداث الفيلم حول رحلة الكاتب الروسي
Andrei لإيطاليا واقامته في قرية  Bagno Vignoni
للبحث في سيرة الموسيقي الروسي Pavel Sosnovsky
الذي عاش فترة من حياته فيها. يعرض الفيلم عدة أحداث تتناول موضوع الغربة بين أندري و Eugenia المترجمة المرافقة له من جهة،
وبين أندري و Domenico أحد سكان القرية من جهةٍ أخرى.

في التالي عرض لمشهد من الفيلم، والذي يبدأ في الدقيقة الخامسة والعشرين، ويستمر حوالي السبع دقائق. وهو عرض لليلة أندري الأولى في غرفته في الفندق، حيث يتكون من لقطات تبدأ بلقطة رؤية أندري للغرفة، ثم نومه وحلمه، وينتهي باستيقاظه في الصباح. وعلى الرَغم من معالجة الفيلم لموضوع الغربة من أوجه عديدة، فإنَّ هذا المشهد يتناول الاغتراب عن الوطن والأسرة والمشاعر المرتبطة بهما بشكلٍ خاص*:

 

يبدأ المشهد باستكشاف أندري للغرفة ذات الأثاث القليل والألوان الغامقة والاضاءة الخافتة. يفتح النافذة لكي يرى المطر في الخارج، لكن لا شيء هناك سوى حائط باهت ولا مظاهر للحياة، فيتركها مفتوحة ويجلس في سريره، ويباغته النوم. عند نومه يدخل كلبٌ للغرفة، يجلس بالقرب من السرير، ويمسح أندري على رأسه. بعدها يتوقف المطر، ويدخل الضوء للغرفة وينير وجه أندري. تفاصيل الغرفة، وصعوبة رؤية المطر، واستسلام أندري للنوم كلها تعبر عن حالة الوحشة والوحدة التي يعيشها. أما الكلب فلم يأتي من الفندق، ولكنه أتى من ذاكرة أندري تعبيراً عن الحنين الذي يسكنه.

هنا ينتقل المشهد إلى حلم أندري، والذي يبدأ بلقطة زوجته المبتسمة التي تقترب من يوجينا فتضُمها. اللقطة الثانية تحاول فيها يوجينا إيقاظ أندري لكنه لا يستيقظ بالرغم من جلوسها بقربه في السرير، وفي الأثناء نسمع دندنة إمرأة لأحد الأغاني الروسية. اللقطة الثالثة والأخيرة من الحلم يغادر فيها أندري السرير الذي ترقد فيه زوجته الحامِل، وفي الأثناء نمسع صوت حركة المفتاح داخل جيبه. هنا نُغادر الحلم تدريجياً، كما بدأناه، إلى الغرفة.

في هذا الحلم كانت يوجينا تبكي في اللقطة الأولى، ويظهر عليها الانزعاج في اللقطة الثانية، على عكس ما عليه زوجة أندري التي كانت مبتسمة في اللقطة الأولى ومطمئنة في السرير في اللقطة الثانية. وكما في حالة الكلب، فإن لقاءهما لم يكن حقيقياً، ولم تدخل يوجينا غرفته أثناء نومه. وجود يوجينا في كلا اللقطتين هو انعكاس لتأثير محاولاتها المتكررة للتقرب منه بينما هو بعيدٌ كل البعد عنها، لذلك كانت تبكي وتواسيها زوجته، ولذلك لم يستيقظ أندري من محاولاتها. وعلى النقيض، فإن ابتسامة وارتياح زوجة أندري تعكس كم هي مطمئة من حبه لها وعدم اهتمامه بيوجينا. أما مفتاح بيته في روسيا فهو دائماً في معطفه ولا يمل لمسه كل حين خلال الفيلم، هو تذكيرٌ دائمٌ له ببيته وبوطنه، بالعودة.

اللقطة الأخيرة في المشهد كانت العودة لرأس أندري وهو نائم من جديد، حيث نسمع فيها نداء يوجينا لإيقاظه، نداء في الحقيقة هذه المرة، يسمعها وهو في آخر لحظات نومه، يصحو وينتهي المشهد.

إن تسلسل المشهد في سرده لواقع أندري ثم انتقاله إلى حلمه ثم العودة إلى واقعه مجدداً كان بشكلٍ غير خطي زماناً ومكاناً، وغير واقعي في شخصياته وأحداثه. حالة أندري ودواخله كانا الحاكميَن للسرد وكل تفاصيل بناء المشهد. فزمانياً لم ينم أندري ويستيقظ في اليوم الثاني مباشرة، بل انتقل إلى زمانٍ هو فيه مع زوجته الحامل، وزوجته تلتقي يوجينا. ومكانياً لم تكن غرفة الفندق هي المكان الوحيد لحدوث المشهد بل كان منزله في روسيا أيضاً. وفي الشخصيات لم يكن أندري هو الوحيد فيه بل كانت زوجته ويويجينا وكلب الأسرة كان مرافقه في غرفته كما يرافق أسرته في روسيا. وفي الأحداث كان أندري أقرب لزوجته البعيدة عنه في الواقع، وأبعد من يوجينا القريبة منه في الواقع. هذا المزج بين العالميَن امتد للخارج، حيث تغيَّرت دلالات العناصر وصار لها معنىً آخر أهم. فالغرفة التي هي في الأساس مستقرٌ ومكانٌ للراحةِ والنوم، صارت كالسجن مُوحشة وباردة وكئيبة. ونافذتها تُطل على حائط يُشعر بالضيق المكاني والنفسي على عكس ما عليه الاطلالة في روسيا من رحابة وجمال. أما المفتاح فيفقدُ بابه، ليصبحَ تذكيراً بالبيت وبالوطن، فكل مرة يلمسه أندري ويسمع صوته يتذكر -ونتذكر نحن أيضاً- روسيا.

دور الممثلين الثلاثة في المشهد هو التعبير عن كل المشاعر الممكنة لحالة الغربة والحنين بأفعال جسدية دون أي كلام يساعد على توضيحها: فأندري يرمي كتاب يوجينا غير مكترث، ويضع شنطته من غير أن يفرغ ملابسه، ويترك المطر ولا يخرج لمشاهدته، ويطفئ أنوار الغرفة، وينام بملابسه… فهو مهموم ووحيد وفي حالة حنين دائم لوطنه وأسرته لا يطيق غربته الحالية وليست لديه رغبة -أو لا يستطيع- تكوين ذكريات جديدة. وزوجته بابتسامتها في شوقٍ له من ناحية وطمأنينة على حبه لها من ناحية أخرى. أما يوجينا فببكائها هي يائسة وحزينة وغاضبة من فشل محاولاتها التقرب من أندري.

أما الصورة فقد اعتمد المشهد فيها على لقطات قليلة في عددها، وطويلة في زمنها، وبسيطة في تكوينها، وبطيئة في أحداثها. فبلقطة واحدة نرى كامل غرفة الفندق، ومنها نقترب ببطء لجسد أندري ورأسه وهو ما يقربنا لعالمه الداخلي وينقلنا لحلمه. وكذلك نبتعد بلقطة واحدة عن رأسه وجسده لنعود للغرفة وللواقع. أما في الحلم فانتقلت بين وجوه الشخصيات لتظهر المشاعر المتناقضة بين كل واحد منهم. هذا الهدوء في عمل الكاميرا والفراغ الكبير في الزمان والمكان جعلا المشهد يبدو مملاً وبدائياً وفارغاً للوهلة الأولى، لكنهما في الحقيقة ساهما في انكشاف المشاعر الواحد تلو الآخر، كلٌ على حِدى، فاستفردت بذلك كأن لها أدواراً لا تقل أهمية عن أدوار الممثلين وحركات أجسادهم.

أما الاضاءة، فإن اطفاء أندري لأنوار الغرفة ثم اظلام الغيوم له، زادا من مشاعر الوحدة والوحشة التي يعيشها، وانارة رأسه بعد توقف المطر كانت بداية للدخول لعالمه. أما الألوان فقد كانت قليلة وقاتمة تعكس حالة اللاحياة والوحشة التي عليها أندري، والانتقال للأسود والأبيض في الحلم يلفت الانتباه لتغيُّر ظروف المشهد نظراً لقدرة الأسود والأبيض على تقليل التشويش والتركيز على ماهو أهم من المكان كتعابير الممثلين ومشاعرهم.

وأخيراً لابد أن يكون المكان منسجماً مع كل هذه المشاعر والحالة السائدة. أنسب مكان لها هو الفندق، حيث يأتيه الناس ويغادروه بلا أثرٍ يتركوه خلفهم. غرفة الفندق هي انعكاس حقيقي لروح أندري وأفضل مكان يحتويها. أما المنزل فلا ينسجم فيه كل ذلك، فمهما كان الضيفُ غريباً عنه، فإن الدفء والذكريات والتفاصيل الخاصة بأصحابها لابد أن تؤثر على كل من فيه.

إن صعوبة تأقلم أندري مع وضعه الجديد أظْهرت مقدار التيه والغربة المتمكنان منه. فهو قليلُ الكلام ونادراً ما يبتسم وكثيراً ما يقضي وقته وحيداً... وبالكاد يتفاعل مع الناس ويخالطهم، وإن حصل، فسرعان ما يفقد تركيزه ويسرح في ذكرياته. أما في عزلته، فلا يستطيع التفاعل مع ما حوله فينغلق على نفسه ويعيش في عالمه الخاص، فمرة يسمع نداء زوجته ومرة يلمس مفتاحه وأخرى يعيش في أحلامه... إن إدراك حالة أندري يجعل أثر هذه السبع دقائق يمتد حتى بعد نهايتها. فهذه المشاعر القوية التي عاشها تاركوفسكي ومن ثم أندري تترك أثرها في المتلقي ليعيش ويسرح معها كما سرح أندري عن كل شيءٍ حوله. 

هذا المشهد لا يخضع لقوانين العالم الفيزيائي، متحرِّر من قيود المادة وهوس الدقة والتفاصيل والتقليد. تحرُّر يُدخِل الصورة رِحاب العالم غير المرئي للانسان: أفكاره ومشاعره وذكرياته وأحلامه وآماله... فيه الزمان غير الزمان والمكان غير المكان... يُقبَلُ فيه كل ما ارتبط بدواخل الشخصيات وعبَّر عنها مهما كان غريباً، ارتباطٌ يُحدد مدى أصالة وحقيقة وصلاحية كل عنصر فيه.

سرد قصة أندري بهذا المنطق لم يكن في هذا المشهد فقط، بل في كامل الفيلم. حيث احتوى العديد من المشاهد التي فيها أحلام أخرى وذكريات وأعمال فنية وحوادث غريبة. مما جعل الفيلم يحدث في عالميَن ومستويين مختلفيَن. وعلى صعيدٍ أكبر فإن أعمال تاركوفسكي كلها تسير بنفس النهج، فهو يرى أهمية وأولوية لعالم الانسان غير المرئي، وسعى من خلال أفلامه لجعل غير المرئي مرئياً، فهو الأساس ولا حقيقة إلا فيه وبه.

وكما كان الفنان والفيلسوف سقراط يدعو النحَّاتين لمراقبة تأثير نشاطات الروح على الجسد، حتى يجسدوها بدقة في أعمالهم، فإن بإمكاننا القول أن تاركوفسكي راقب نشاطات دواخله وكيف تجلّت في حياته فنقلها في أجساد شخصياته، وأكثر من ذلك، في صورته ككل، فصارت انعكاساً وتجسيداً لعوالم الانسان كلها. صورة من نوع آخر يمكن أن نسميه: سينما غير المرئي أو سينما الدواخل أو سينما الروح**.


 

* بإمكانك مشاهدة الفيلم على هذا الرابط

** للاستزادة أكثر حول فلسفة تاركوفسكي الفنية والسينمائية، بإمكانك قرآءة كتابه Sculpting in Time، وهذه مراجعتي له