مشهد (٢): فيلم (حدث ذات مرة في الأناضول) لنوري جيلان Once Upon A Time in Anatolia (2011) Nuri Ceylan

(جميلة) ابنة المختار لحظة دخولها الغرفة في المشهد

(جميلة) ابنة المختار لحظة دخولها الغرفة في المشهد

تدور أحداث الفيلم -الذي أخرجه وشارك في كتابته السينمائي التركي نوري جيلان- حول رحلة البحث الطويلة والشاقة عن جثة رجل قتله شخصين، من قبل فريق البحث المكوّن من عدة رجال. خلال هذه الرحلة لا نجد الجثة فقط، بل تظهر لنا عدة مستويات لحقيقة هذه الجريمة، كما تكشّف النقاب عن حقيقة موت آخر ومآسٍ أخرى.

فيما يلي عرض لمشهد من الفيلم*، والذي يبدأ في الدقيقة الخامسة والخمسين ويستمر لخمس دقائق تقريباً. حيث تدخل ابنة المختار (جميلة) على الرجال في المجلس، وتقدم لهم الشاي والنور، ثم تخرج.  وعلى الرغم من قلة واعتيادية أحداث المشهد؛ إلا أنه يرتبط مباشرةً مع ثيمات الفيلم كتأثير جريمة القتل على الجميع، تعدد مستويات الواقع، مكان المرأة في تفكير المجتمع وغير ذلك. حيث يشير ويتصل بأحداث سابقة ولاحقة في الفيلم.

يبدأ المشهد بلقطة خروج (جميلة) من المطبخ بهدوء، حاملةً الفانوس والشاي، قاطعةً بهم فناء المنزل ببطء في ظلام الليل وعلى إيقاع هزيز الريح، حتى تصل إلى المجلس. في اللقطة الثانية تدخل على الرجال في الغرفة المظلمة لتبدأ بتوزيع الشاي عليهم، في لقطات متتالية تضيء وجه كل واحدٍ منهم بنور الفانوس، تنحني نحوه وتلقي عليه نظرة، ثم تعطيه الشاي وتنتقل للآخَر. تبدأ بالطبيب وتنتقل للمدّعي العام ثم المتهمين (رمضان) و(كنان) وأخيراً القتيل (ياسر)، ينتشر الضوء مع حركتها في أنحاء الغرفة، ثم تغادر.

بدأ المشهد من نافذة المجلس، حيث الجميع ينظرون إليها وينتظرون قدومها، بكل أثقالهم الجسدية والنفسية. كان مشيها بطيئاً، وانتظارهم طويلاً. النور والشاي كانا كل ما توقعوه منها، إلا أنها حملت ماهو غير متوقع. أتت بكل احتمالات الجمال والحياة في ذروة قصة الموت هذه.  فحوَّلت نفوسهم: رأى الطبيب فيها ملاكاً وسط الشياطين، رأى طليقته وحياته المهدرة في هذا المكان، رأى فيها مستقبلاً أجمل. رأى فيها المدعي العام مأساة موت زوجته وحزنه المستمر، وجمالاً وشباباً مهدراً. رأى فيها (رمضان) عطفاً لم يجده من أحد. ورأى القاتل فيها الضمير الذي ينقصه للندم، والبصيرة التي تريه فظاعة جريمته، والخيال الذي أراه (ياسر) حياً لم يمت، وأخيراً المخلّصة التي أزاحت عنه الحِمل ليعترف بكل شيء. أما القتيل فقد أحيته معنوياً في المكان، لنرى لحظات موته. هكذا أضاءت المكان والقلوب ثم غادرت. وينتهي السحر بمغادرتها لنعود مجدداً للواقع، مع صرخات (ناجي) على (كنان) بأن يستيقظ، فالليلة الطويلة لم تنته بعد.

منذ بداية الفيلم أخذ التوتر يزداد بين الجميع، فأتت جميلة وأتى هذا المشهد لينقل الفيلم من كل ذلك إلى حالة نفسية جديدة مليئة بالندم والتوقْ والأحلام والأمنيات والدفء والسلام. فمن هذه المنطقة النائية وفي ظلمة الليل وشدة البرد والرياح وانقطاع الكهرباء، في منطقة قليلة البشر كثيرة الأموات، ومع حَنَقِ الرجال ، أتت (جميلة) من العدم، وكسرت كل الشروط الممكنة لوجودٍ مثلها، لا المكان ولا ضيوفه ولا الظروف يشبهانها. بل وكسرت الوجود الدائم للرجال في الفيلم، فكانت الظهور الأول لشخصية نسائية فيه، وجوداً لوجهٍ آخر في الوجود، للحياة. أسدل هذا المشهد الستار عن ما كان غامضاً قبله، ففي المشاهد التالية أفصح (كنان) عن تفاصيل جريمته، أمطرت السماء بعد انتظارٍ طويل، وجدوا الجثة في أول مكان توقف. تغيّر كل شيء بعد (جميلة)، وبدأ الفيلم فصلاً جديداً في هذا الحدث الأناضولي.

في المشهد التالي رأينا جميلة مجدداً، حيث خرجت لجمع الملابس المعلّقة بعد اشتداد الريح واحتمال هطول المطر، هذا الظهور فيه إشارة أخرى لدورها المختلف، فكما رأينا أن أثر ما تقوم به على الدواخل كما الظواهر، فإنقاذها للملابس من الريح والمطر كإنقاذ كل شيءٍ في الحياة. معها صارت الضيافة في القرية ضيافتين، ضيافة المختار الجسدية للراحة والأكل كما طلبها الرجال تماماً. وضيافة ثانية من (جميلة)، نفسية وروحية، لم يعد بعدها الفيلم كما كان.

تكوين الصورة والإضاءة عزَّزا دور (جميلة) وتأثيرها، فنرى الكاميرا لا تتحرك إلا بحركتها، ولا تظهر أحداً من الرجال إلا عندما تقترب منه، فأهمية كل واحد منهم في اللقطة تأتي من أهميتها هي، من اقترابها منه وتقديمها الشاي والنور له. أما الإضاءة  فكان وجهها مضاءاً باستمرار على عكس وجوههم المظملة، التي تظهر فقط باقترابها منهم،  فتضيء وجوه الواحد تلو الآخر كما تضيء دواخلهم. وبالإضافة للتقابل في تأثير (جميلة) عليهم وفي حركة الصورة والضوء، امتدت الثنائية في بقية العناصر المكونة للمشهد: فمثلاً نجد الجميع جالسين ساكنين كالمريدين في حضرتها، وهي الوحيدة تتحرّك بينهم وكأنها تحاول إحياءهم. وهي الأنثى الوحيدة بينهم، والغريبة مقابل مجموعة رجال يعرفون بعضهم. تعابيرها الهادئة مقابل تعبيراتهم المضطربة. تملؤها الحياة ويملؤهم الموت. تعطي كل شيء مادياً ومعنوياً وهم يستقبلون. كل ذلك جعل المشهد غنياً عن الكلام، فحال هؤلاء أوضح مع الظلام وتأثير (جميلة) عليهم أوضح مع النور. كل ذلك في انتقال سلِس من عالم هؤلاء إلى عالم (جميلة) ثم عالم (كنان) والعودة مجدداً مع صرخات (ناجي).

وبعد أن كان الزمان طويلاً مملاً وثقيلاً، والمكان يتكرر وكأنهم عالقين في متاهة، انتقل كل شخص مع جميلة إلى أماكنه وعوالمه الخاصة، وصار زمانه خفيفاً لطيفاً .

وكما انتقل بنا الفيلم من مستوى إلى آخر في حقيقة موت (ياسر): مع (ناجي) ثم مع المدّعي العام وأخيراً مع الطبيب؛ فإنه ينتقل بنا إلى مستوىً آخر لحقيقة (جميلة). يظهر ذلك في المشاهد التالية، وفي تعرفنا على بقية الشخصيات النسائية في الفيلم، حيث لها مكانةً مناقضة لما عليه (جميلة) في مشهد النور. فمن الحديث الذي دار بين الطبيب والمدعي العام ومن كلام عرب وكلام ناجي حين قال نقلاً عن زميله في العمل: ”أينما وجدت علبة من الديدان، ابحث عن امرأة. تأكد أن تبحث عن أمرٍ مع امرأة. وطوال هذه السنوات لم يخطيء هذا الرجل ولو مرة واحدة“. من ذلك كله، نجد أن كل واحدٍ فيهم قد أغوته (جميلة) بشكلٍ ما، ونرى تصورات هؤلاء عن المرأة. فهي بالنسبة للجميع مادة لابد من استغلالها، وبداية للشر.

هذه النظرات والتعليقات تجعلنا نُسائِل دور (جميلة) في الفيلم، ونبحث ونتأمل في حقيقة أخرى لاحقة لهذا المشهد -وربما نتنبأ بمستقبلها-: أيُّ الامرأتين ستكون في المستقبل؟ فالمرأة الأولى، زوجة (ياسر)، خانته مع (كنان)، فكانت هذه الخيانة سبباً في مقتل (ياسر). والمرأة الثانية، زوجة المدعي العام، أنهت حياتها بعد معرفتها بخيانة زوجها لها. فالأولى خانت زوجها والثانية خانها زوجها، وكانت النتيجة واحدة: الموت.

وماهو مصيرُ (جميلة)؟ هل ستنقذها نظراتها للطبيب كما أنقذتهم في المشهد السابق؟ أم أن هذا هو واقعها ومصيرها خلف الجدران؟

 هل ستبدأ هذا الطريق وتصبح شرارة البداية لكل المشاكل؟ أم ستنجو منها وينجو ارتباط مصيرها بالموت لتواصل ما بدأته في هذا المشهد! أم… أم هي مجرّد تصور ”جميل“ و“فني“، يتكرر في الفنون ولا يحدث في الواقع. لنجد أنفسنا أمام سؤال ڤيرجينيا وولف** القديم: لماذا هذا التناقض بين تصوراتنا عن المرأة في الواقع وفي الفن؟ لماذا (جميلة)، جميلة فقط في هذا المشهد؟

ولنختم في النهاية بسؤال: هل (جميلة) موجودة بيننا حقاً؟

وكما حوّل مشهد النور كل الشخصيات فيه، حولّنا للنظر في حقيقة جميلة. تماماً كما حولنا الفيلم للنظر في حقيقة كل شخصياته من الشرطي إلى الطبيب.


*بإمكانك مشاهدة المشهد على هذا الرابط

**هذا السؤال طرحته الكاتبة الإنجليزية ڤيرجينيا وولف في كتابها A Room of One’s Own، بإمكان قراءة مراجعتي للكتاب