مشهد (٣): فيلم (عبد لاثني عشر عاماً) لستيڤ ماكوين 12 Years a Slave - Steve McQueen

هذا المشهد* الذي يستمر لدقيقتين وخمسين ثانية تقريباً، نشهد تفاصيل تعذيب سولمون من قِبل كبير النجارين البيض الذي افترى عليه وضربه، فرد سولمون بالدفاع عن نفسه وضرْبه. ولأن حق الدفاع وتوضيح الحقيقة مسلوب في عالم العبودية، فقد كان عقابه القتل، الذي تغيّر في اللحظة الأخيرة لعملية التعذيب هذه.

يقدم Steve McQueen للمتلقي في هذا المشهد تجربة تجمع بين تصوير التعذيب لفترة طويلة وبتفاصيل مربكة، وتأمل مفتوح في أحوال العبودية لا تحجبه تفاصيل العنف. مشهد هاديء مقارنة بما قبله وبعده من مشاهد التعذيب.


يتكون المشهد من ثلاث لقطات أساسية، تحكي كل واحدة جانب أساسي يرتبط بقصة الفيلم وبالسياق النفسي والاجتماعي لحالة التعذيب هذه، وحالة العبودية بشكلٍ عام:  

ففي اللقطة الأولى بداية تعليق سولمون بحبل مربوط حول عنقه، ومثبّت بأحد فروع الشجرة. حيث يقف على الأرض الطينية بأطراف أصابعه، إنْ أخطأ في تثبيت قدميه سينزلق ويشنق نفسه.

ونرى خلفه كيف تسير الحياة بشكلٍ طبيعي، يمارس زملاؤه أعمالهم اليومية ويلعب الأطفال، دون أي محاولة لإنقاذه أو استنكار تعذيبه.

في اللقطة الثانية تتقدم إحدى النساء لتحضر الماء لسولمون، وهي خائفة تحت أنظار السيّد.

وفي اللقطة الثالثة تتغيّر زاوية الكاميرا للجهة المعاكسة المقابلة لسولمون، لتعرض لنا مراقبة السيد لما يحدث، بالتأكد من استمرار عملية التعذيب على جميع العبيد. أحدهم تحت التعذيب والبقية لا قدرة لهم على إنقاذه وبل عليهم إكمال حياتهم وأعمالهم.

الحرية الممنوحة للعبيد في هذا المشهد خادعة وغريبة. فهم ابتداءً مسلوبي الحرية في كل قراراتهم، وتُرَد إليهم في موقف كهذا ويكون مصير حياتهم بخطوة واحدة منهم، في ظروف لم تصنعها حرية قرارهم. فكل الظروف التي أودت بسولمون إلى هذه الحالة لم تكن بإرادته بل أكره عليها. وبالرغم من ذلك، عليه الاختيار ولمرة واحدة وبحركة واحدة من قدميه أن يحيى أو يقتل نفسه!

أما زملاؤه فلهم هامش من الحركة والمساعدة، يوهمهم بأن لديهم القدرة على اتخاذ قرار مساعدة بعضهم. في حين أن حقيقة ما يفعلوه لا يغيّر من الوضع شيئاً. بل على العكس، هو إيهام بالحرية في غير موضعها.

ليكون حال المشهد في النهاية: الاقتراب من كل شيء وعدم الحصول عليه. الوقوف على مسافة متساوية من الحياة والموت، الحرية والعبودية، المساعدة والعجز. دون نيل الحياة والحرية والعون. وهذا ما يريده السيّد تماماً، أن يجعلهم في حالة من التيه والوهم، أن يجعل الجميع عاجزاً وتحت سيطرته الكاملة.

من ناحية أخرى، فإن السيد لكي يحكم سيطرته على العبيد لابد أن يغير ذهنيتهم ونفوسهم وعلاقاتهم الاجتماعية. فعملية تعذيب سولمون ليست جسدية فقط، بل ذهنية ونفسية كذلك. فأولاً استمرار فترة التعذيب طوال النهار يجعله في انشغال دائم بكل حركة من أصابع قدميه حتى لا يقتل نفسه. لا الحبل موجود على ارتفاعٍ عال لقتله ولا هو على الأرض ليحيى، وإن حصل ذلك في اللحظة الأخيرة، إلا أنه تجسيد حقيقي لما عليه الحال. فالعبيد منشغلون دائماً بالنجاة من المشاكل الواحدة تلو الأخرى، تفكيرهم دائماً عند موطئ أقدامهم -حرفياً- ولا وقت لديهم للتفكير فيما أودى بهم إلى عبدويتهم ابتداءً.

كذلك، فإن استمرار هذا التعذيب جعل سولمون يرى ويسمع من حوله كيف تستمر حياتهم بدونه وبدون إنقاذه. وبالتعوّد على ذلك، يضعف التواصل والتعاطف بينهم.

أما البقية، فبعدم قدرتهم على مساعدة سولمون. يعلمون جيداً أن دورهم قادم قريباً، وسيشاهدهم البقية كما يشاهدون سولمون الآن، وكما شاهدوا جمعياً ما حدث لإليزا من قبل ولم يحركوا ساكناً، وكما سيحدث لغيرهم مستقبلاً.

بذلك يتعزز لدى الجميع أن الطريقة الوحيدة للنجاة هي النجاة الفردية، أن تبقى على قيد الحياة قدر الإمكان مهما كلّف الثمن، وإن كان ذلك الثمن أن تنقص من انسانيتك، فتبقى في عبوديتك حتى الموت. فلا مكان للتفكير بشكلٍ جماعي والتحرّك بناءً على ذلك. فأي محاولة للمقاومة الجماعية قد تنتهي بالضرر على الكل. إلى ما انتهى إليه سولومون وإلايزا وغيرهم. هذا التغير في التفكير من النجاة الجماعية إلى الفردية وفي تغيّر شكل العلاقة بين أصحاب المصير المشترك يعزز وضع العبودية القائم.


هذا المشهد استثنائي وسط سلسلة من العنف والمآسي في الفيلم قبله وبعده. حيث يسمح، بالرغم من قسوته، بالوقوف على الصورة الكاملة للعبودية، بعرضها من أكثر من زاوية، في الجلاد والضحية الحالية والضحايا المحتملين والسياق العام.

فأهميته في أنه أكثر المشاهد هدوءاً بين مشاهد التعذيب، في الطريقة التي تم تكوينه بها، فهو كثيف بصرياً من حيث تصويره للتعذيب، لكنه تقشفي في عناصر تكوين المشهد الأخرى. فتواتر الأحداث بسيط، ويترك مساحة بصرية وفراغ لغوي وصوتي، يُعطي الفرصة للمتلقي للتأمل فيما استثاره فيه كامل الفيلم حتى لحظة المشهد هذا. واستصحابه معه في المشاهد القادمة.

فبالنسبة لحركة الكاميرا، فثباتها على طول المشهد سمح بأن نرى كل من في المكان وماذا يفعل وكيف يستجيب لتعذيب سولمون، ثبات محايد للجميع تقريباً، يسمح، من ضمن ما يسمح، للمتلقي بالتأمل بطريقته الخاصة بعيداً عن أي تأثير وإجبار مسبق. حيث نرى كل مستويات العقاب على الجميع، فنرى الضحية الحالية والمحتملة، ونرى التأثير الذهني والنفسي والاجتماعي. هنا في هذا الفيلم المتسارع الأحداث والمليء بالعنف تظهر لنا لمحة من الأسلوب السينمائي للإيراني عباس كياروستامي في سينما التأمل الخاصة به، والتي تقف على الحياد فتسمح للمتلقي بالمراقبة والتأمل. هنا تستطيع التقاط أنفاسك وتعيد ترتيب مايحدث في الفيلم ويحدث بداخلك.

أما بالنسبة لتواتر الأحداث، احتوى المشهد على حدث واحد رئيسي، لكن تكراره كان كافياً لزيادة ثِقل العقوبة على المتلقي. فسلومون على هذه الحال لنهارٍ كامل. يحاول مراراً ألا يموت. هنا؛ استمرار التعذيب وتكرار محاولات سولمون كانت أولى من ملء المشهد بأساليب تعذيب معتددة، فأسلوب تعذيب واحد على شخص واحد وفي موقف واحد يكفي لادراك بشاعة ما يحدث.

أما الحوارات والموسيقى، فقد اختلف هذا المشهد عن جميع مشاهد التعذيب في الفيلم بخلوه من الحوارات والموسيقى. فكان صوت حركة الحبل وأطراف أصابع سولمون على الوحل وتنهيداته كافية لإثارة كل شيء. كان صمت البشر والطبيعة على هذا الظلم أبلغ من أي حوار وموسيقى لإيصاله.


إن التقليلية والفراغ في العمل الفني، والسينمائي هنا، لا ترتبط بالصورة فقط، بل بكل عناصر انتاج المشهد. وتكوين المشهد لا يعني القدرة على الاضافة فقط، بل ”و“ القدرة على حذف ماهو غير ضروري، للسماح بالضروري أن يتجلّى.



*بإمكانك مشاهدة المشهد على هذا الرابط